هل المبادر للصلح شخصيته ضعيفة ؟
لفت نظري رجل دخل على وشرح لي الخلاف الذي بينه وبين زوجته وأنه لم يخطأ في حقها، ومع هذا فقد بادر أكثر من مرة للإصلاح ولكنها كانت ترفض هذه المبادرات، فطلب مني أن أتدخل بينهما وكلمت الزوجة وشرحت لها طبيعة الخلاف بينهما وبينت لها أن زوجها لم يخطئ وتم الصلح والحمد لله، ولكن الموقف الذي أعجبني أكثر أن الزوج الذي لم يخطئ هو الذي بادر للصلح، ولعل هذا المفهوم اليوم غائب عن كثير من الناس لأنهم يفهمون أن المبادر دائما لابد أن يكون هو المخطأ
ولعل من القصص الجميلة ما حدث للشيخ على الطنطاوي رحمه الله (فقيه وأديب وقاضي سوري توفي عام 1999م) قال : (وقع مرةً بيني وبين صديقٌ لي ما قد يقع مثله بين الأصدقاء، فأعرَض عني وأعرضتُ عنه، ونأى بجانبه ونأيتُ بجنبي، ومشى بيننا أولاد الحلال بالصلح، فنقلوا مني إليه ومنه إليَّ، فحوَّلوا الصديقين ببركةِ سعيهما إلى عدوين، وانقطع ما كان بيني وبينه، وكان بيننا مودةَ ثلاثين سنة. وطالت القطيعة وثقُلَت عليَّ؛ ففكرتُ يوماً في ساعة رحمانية، وأزمعتُ أمراً.
ذهبت إليه فطرقتُ بابه، فلما رأتني زوجه كذَّبت بصرها، ولما دخلت تُنبِئه كذَّب سمعه، وخرج إليَّ مشدوهاً! فما لبثته حتى حييته بأطيب تحيةً كنتُ أُحييه أيام الوداد بها، واضطر فحياني بمثلها، ودعاني فدخلتُ، ولم أدعه في حَيرته، فقلتُ له ضاحكاً: لقد جئتُ أصالِحك! وذكرنا ما كان وما صار، وقال وقلتُ، وعاتبني وعاتبته، ونفضنا بالعِتاب الغبار عن مودتنا، فعادت كما كانت، وعُدنا إليها كما كُنَّا.
وأنا أعتقد أن ثلاثة أرباع المختلفين لو صنع أحدهما ما صنعتُ لذهبَ الخلاف، ورجع الائتلاف، وإن زيارةً كريمةً قد تمحو عداوةً بين أخوين كانت تؤدي بهما إلى المحاكم والسجون. إنها والله خطوة واحدة تصِلون بها إلى أنس الحب، ومتعة الود، وتسترجعون بها الزوجة المهاجرة، والصديق المخالِف. فلا تترددوا…”.)
أسلوب أدبي راق وصف فيها الخلاف الذي حصل بينه وبين صديقه رحمه الله، صور لنا جمال المبادرة للصلح أثناء الخلاف بين الصديقين، وبين لنا أنه ليس كل من يحاول الصلح تكون نتيجته إيجابية، بل بعض من يتدخل للصلح يفسد أكثر مما يصلح، بسبب فقره للحكمة ومهارات الحوار، ويبقى السؤال المهم هو (هل المبادر للصلح شخصيته ضعيفة ؟)، إن هذا السؤال مهم جدا لأن أكثر الناس لا يبادرون للصلح أثناء الخلاف على اعتبار أنهم يعتقدون أن المبادرة فيها نقص للكرامة أوهي دليل على ضعف الشخصية،
وقد يكون هذا المفهوم متوارث من العادات الاجتماعية، ولكن هذا الفهم يتناقض مع مفاهيمنا الإسلامية لأن المبادرة ليس لها علاقة بمن هو المخطئ، بل أن ديننا شجع على المبادرة بالصلح، سواء كانت المبادر مخطئ أو غير مخطئ، كما أن ثواب المبادر يوم القيامة عظيم فقد قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم قال: “ينادي مناد من كان أجره على الله فليدخل الجنة مرتين، فيقوم من عفا عن أخيه”.. أخرجة البيهقي، بل وجعل الخيرية للذي يبادر ويبدأ بالسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” لا يحَلُّ لمسُلمٍ ، أنْ يَهجُرَ أخَاهُ فوقَ ثلاثِ ليالٍ، يلتَقِيان فيَعُرِضُ هذا ويُعرِضُ هذا، وخَيرُهُمَا الذي يبَدأُ بالسَّلامِ ” رواه مسلم، ولاحظ معي أن الخيرية للذي يبادر يبدأ بالسلام بغض النظر إن كان هو المخطئ أم لا، فمن يبادر إذن هو من يمتلك الشخصية القوية وهو الذي كسب الخيرية وهو الذي يكون أجره أكبر عند الله وثوابه أعظم يوم القيامة