التضحية في هذه الحالات خطأ ؟
قال : هل أضحي لجميع أحبابي وأصدقائي أم لأشخاص لا يستحقون التضحية ؟ وإذا لم أضحِّ لبعض الأشخاص فهل هذا صواب أم خطأ ؟ وإذا كنت أضحي من أجل شخص وهو لا يضحي من أجلي فهل أستمر بالتضحية أم أتوقف ؟
قلت له : إن التضحية من علامات الحب ، فالوالدان يضحيان من أجل أبنائهما ، والتضحية أساس استمرار العلاقة الزوجية وهي خلق أساسي بين الصديقين وكذلك هي من أعلى مقامات التقرب إلى الله بأن يضحي الإنسان بنفسه وروحه وماله ووقته لله تعالى ، فالتضحية خلق الأكابر وأجمل تضحية عندما تضحى عن محبة ورضى لا عن إكراه وإجبار.
ولعل السؤال المحير هو : هل نستمر في التضحية من أجل إنسان لا يضحي من أجلنا ؟ والجواب عن هذا السؤال من شقين : الأول أن نختار الاستمرار بالتضحية وننويها لله تعالى ولكن بشرط أن لا يكون ذلك على حساب نفسيتنا وصحتنا ، والجواب الثاني أن نختار التوقف عن العطاء والتضحية له . وأذكر بالمناسبة أني اقترحت على امرأة أن تتوقف عن التضحية من أجل زوجها لتشعره بعطائها فشعر بقيمة جهدها وتعبها وصار يتعامل معها باحترام وتقدير.. وبعض الناس لا يرون تضحية الآخرين وعطاءهم مثل امرأة اتصلت علي مرة تشتكي من إهمال زوجها فلما تحاورنا في أعماله ويومياته عرفت أنه يصرف كل وقته من أجل بيته وأبنائه فاطمأنت له وصارت تنظر إلى انشغاله عنها على أنه تضحية من أجلها.
وهناك نوع من التضحية نسميها (التضحية الغبية) وهي أن نستمر بالتضحية لمن يستغلنا ويستغفلنا ويهيننا ويمثل علينا ويستهزئ بنا ويظلمنا ويأكل حقوقنا ومع هذا نحن نضحي من أجله ، وقد رأيت حالات كثيرة من هذا النوع ولكن الصواب هو (التضحية الواعية الذكية ) بمعنى أننا نضحي بإرادتنا لشخص يستحق التضحية إما لتقديرنا أو لأنه يبادلنا التضحية ، ولهذا نحن نقول إن التضحية مع الأصدقاء وبين الزوجين والأولاد لها حدود ، أما التضحية للوالدين فالحساب مفتوح وليس له حدود بسبب فضلهما علينا وإن قصرا معنا لأنهما سبب وجودنا.
ومنذ فترة مرت علي قضية لزوج أهمل زوجته وبيته وأولاده وتحملت زوجته كل المسؤوليات وصارت تلعب دور الأب والأم في بيتها حتى في الجانب المالي فهي تتعب وتكدح في عملها وتصرف على بيتها وأولادها ، أما زوجها فهو مرفه ينام بالنهار ويسهر بالليل فاستشارتني يوما بأنه يلح عليها لاستلام بطاقة البنك الخاصة بها ، فقلت لها : إياك ثم إياك أن تعطيها له ، فهو لا يستحق ذلك ولو سلمتِه حسابك فهذا يسمى استغلالا وظلما وهذه هي (التضحية الغبية) ، فنحن نضحي لمن يضحي من أجلنا ولا مانع أن نعطي الكثير لمن يعطينا القليل ونحتسب ذلك عند الله تعالى ، ولكن أن نضحي لمن لا يضحي من أجلنا ويهيننا فهذا استخفاف لنا واستغلال بنا لا نرضاه أبدا.
وأذكر أن مخطوبة سألتني كيف أعرف أن خاطبي سيضحي من أجلي فقلت لها : من الصعب معرفة ذلك ولكن حاولي أن تجمعي معلومات عن أخلاقه بشكل عام واسألي عن تضحيته لوالديه أو إخوانه أو أصدقائه فإن كان مضحيا فيعني هذا أنه في الغالب سيضحي من أجلك.
ويمكننا أن نختبر الآخرين في التضحية كأن نضحي من أجلهم ثم نرى ردة فعلهم على مواقفنا فإذا قدروها وبادلونا بتضحية أخرى فيعني ذلك أنهم يستحقون أن نستمر بعطائنا لهم ، أما لو رأينا أنهم لا يضحون من أجلنا فنتحاور معهم لنلفت نظرهم لتضحياتنا من غير أن نمن عليهم فلربما يكونون غافلين عن تضحيتنا أو ربما يحدثونا عن تضحياتهم التي لم نرها ، ولكي تنجح أي علاقة بين اثنين فلا بد لها من تضحية لأن التضحية تعمق الحب وتزيده في الحياة وبعد الوفاة ، كما حصل بين النبي الكريم وخديجة رضي الله عنها فقد قامت علاقتهما على الحب والتضحية من أول يوم واستمر ذلك في حياتهما وحتى بعد وفاة السيدة خديجة ، وذلك لما قدمته من تضحيات عظيمة من أجله وأجل دعوته فقد صبرت على الأذى وطلقت ابنتاها وحوصرت اقتصاديا في شعب أبي طالب ودعمت النبي بمالها وأحسنت تربية البنات وفتحت له بيتها بمكة وسخرت له علاقاتها الاجتماعية لنصرة دعوته ، فمواقفها تصلح لأن تكون مدرسة للتضحية تدرس لكل من يريد تعلم الحب وتضحياته فلنتأمل ذلك .